صادفت مقولة من مقولات الفيلسوف الروسي الشهير، ليو توليستوي وهي:
“إن أصعب المواضيع يمكن شرحها لأبطأ الناس استيعاباً إذا لم تكن لديه أيّة فكرة عنها مسبقاً؛ لكن أبسط شيء لا يمكن توضيحه لأكثر الرجال ذكاءً إذا كان على قناعةٍ راسخةٍ بأنّه يعرف مسبقاً، دون أدنى شك، ما هو مطروح أمامه”
لعلّك تمرّ بهذه المعضلة التي أشار إليه توليستوي بشكلٍ شبه يومي، في محادثاتك مع الأصدقاء، في محاولتك – مثلي – لفهم هذا العالم المجنون الذي نعيش فيه أو حتى لفهم بعض الأحداث التاريخية السابقة. لكنّي وبطبعي أحب التأكّد من المعلومات عن طريق الأبحاث العلمية. وإليك فَذلَكة سريعة لأهم دراسة في هذ الصدد:
الدراسة الأهم: ستانفورد ١٩٧٥ – Ross et al., 1975
- زوّد روس وليبر وهوبارد (1975) الأشخاص لأول مرة بملاحظات خاطئة فيما يتعلق بقدرتهم على أداء مهمة جديدة. وكانت المهمة هي التمييز بين رسائل الانتحار الحقيقية والمزيفة من خلال قراءة عدد من الأمثلة. أدت النتائج الكاذبة المعطاة من المُجرِّب إلى اعتقاد الأشخاص بأنّهم قد حقّقوا مستوى أفضل بكثير من المتوسط أو أسوأ بكثير من المتوسط. ثم، في المرحلة الثانية، تم إخبار المشاركين بأنّ النتائج التي تلقوها في المرحلة الأولى ليست حقيقية ومُختلقة من الباحثين.
- استمر الأشخاص الذين تم دفعهم في البداية إلى الاعتقاد بأنّهم نجحوا في الاعتقاد بأنّهم سيحققون نتائج أفضل من الأشخاص الذين تم دفعهم في البداية إلى الاعتقاد بأنهم فشلوا.
- التفسيرات المقترحة لهذا الموضوع هو أنّنا كبشر نحاول دائماً فهم الأحداث التي تصدافنا وتفسيرها؛ فالأشخاص الذين لم يستطيعوا تحديد رسائل الانتحار بشكل جيّد قاموا قبل معرفتهم بأنّ النتائج المعطاة زائفة بإيجاد تفسيرات مثل أنّهم لم يحتكوا كثيراً بأشخاص مكتئبين ويرغبون بالانتحار، ولا خبرة لديهم في ذلك الموضوع أو أنّهم متفائلين جداً بالحياة لدرجة لا يستطيعون فهم ذلك الأمر.
- وعند إخبارهم بالحقيقة وأنّ النتائج مزيفة، لم يُغيّر ذلك قناعاتهم وتفسيراتهم لما حدث!
إذاً الآن اقتنعنا أنت وأنا بالموضوع، لكن لماذا يحدث هذا أصلاً؟ لماذا يصعب علينا تغيير قناعاتنا في موضوع بسيط على الرغم من إعطائنا الأدلة التي تقول عكس ذلك كما في الدراسة السابقة مثلاً!؟
“تعرف إيه عن المنطق؟”
صادفت خلال بحثي عن الأسباب التي تدفعنا إلى عدم تغيير قناعاتنا هذا التفسير من عالم النفس في جامعة هارفادر ستيفين بينكر، الذي يردّ الأمر إلى المنطق!
يعرّف المنطق بأنّه: الاستدلال المستخدم في خدمة الهدف. لكن ما علينا فهمه أنّ الهدف ليس بالضرورة فهم الكون من حولنا، بل قد يكون ببساطة الرغبة في الفوز بجدال أو ببساطة لإظهار أهميتك أو أهمية شعبك / قبيلتك/ دينك / أو حتى شركتك بالمقارنة مع المجموعات الأخرى.” يعرف ذلك بالانحياز الذاتي – Myside Bias.
القناعة كنز لمن اقتنع
“إذا توقّع الدماغ أنه سيتم مكافأته على تبني اعتقاد معين، فإنّه يكون سعيدًا للقيام بذلك، ولا يهتم كثيرًا من أين تأتي المكافأة – سواء كانت عملية (نتائج أفضل ناتجة عن قرارات أفضل)، أو اجتماعية (معاملة أفضل من أقرانه) أو مزيج من الاثنين.” كيفن سيملر
وأعني بكلمة كنز كل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. نواجه بحسب وصف كيفن سيملر كبشر نوعين من النتائج التي تؤدي إليها معتقداتنا:
النوع الأول: نظام الكفاءة وهو بحثنا عن القناعات الحقيقية والصحيحة لخوفنا من أن نخفق إذا كانت لدينا أفكار خاطئة.
النوع الثاني: نظام المحسوبية: وهي الحالة التي لا نهتم فيها بالدقة والصواب كثيراً بقدر اهتمامنا برأي الآخرين فينا وانطباعاتهم.
وهل أنا إلا من غزيّة
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت … غويت إن ترشد غزيّة أرشد
هذا البيت من قصيدة لدريد بن الصمّة، رثى بها أخاه. وغزيّة: قبيلة الشاعر. لعلّك سمعت هذا البيت في مرحلة الدراسة، وإذا لم تسمعه فإليك شرحه من كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية لمحمد حسن شراب: يرى الشاعر دريد أنّه يتبع لمبدأ جماعية القرار، بحيث يكون الفرد ملزماً باتباع رأي الغالبية وإن كان يخالفهم في الرأي، وكان الحق معه وهم على غير الحقّ فيما يرى.
ولكن الفرد هنا ليس تابعاً للقبيلة، بل يعلن رأيه ويوضح للجماعة موقفه، فإن قبلوا فذاك هو المراد، أما إن عافوا رأيه فعليه الإذعان لرأي الجماعة وليس الانشقاق والعصيان .. ولذلك يقول قبل البيت السابق:
وقلت لعرّاض وأصحاب عارض … ورهط بني السّوداء والقوم شهّدي
علانية ظنّوا بألفي مدجّج … سراتهم في الفارسيّ المسرّد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى … فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى … غوايتهم وأنني غير مهتد
نرى من خلال هذه القصيدة ومن خلال حياتنا اليومية أننا لا نعتقد دائماً بالكثير من الأفكار لأنّها صحيحة وحسب، لكنّنا نعتقد بها لأنّها تجعلنا نبدو بشكلٍ جيّد أمام من نهتم لأمرهم.
وسأعرض عليك سريعاً كيف يمكن لدماغك أن يوظف قناعاتك:
- الاندماج: يصعب جداً أن تكون الشخص الوحيد المعارض لجماعةٍ تهتمّ أنت لأمرها.
- التعبير عن الذات: عكس البند السابق فهنا يقوم دماغك بجعلك تفصح عن معتقدات معاكسة لما هو سائد لتظهر كفرد معبّر عن ذاته ومستقل برأيه. فيما يشبه التحذير اللوني عند الحيوانات.
- البحث عن الإعجاب والتأييد: طلبك من الآخرين اعتقاد ما تعتقده.
“يتم تكريم الناس أو إدانتهم وفقًا لمعتقداتهم، لذلك قد تكون إحدى وظائف العقل هي اعتناق معتقدات تجلب لصاحب المعتقد أكبر عدد من الحلفاء أو الحماة أو التلاميذ، بدلاً من المعتقدات التي من المرجّح أن تكون صحيحة.” ستيفن بينكر
إذاً ما العمل؟
قد يكون تغير قناعات الأشخاص الآخرين من أكثر الأمور صعوبةً. فهو عملياً إقناعهم بتغيير انتمائهم وجماعتهم! تخيل الشاعر دريد يغيّر رأيه، بكل تأكيد ستتركه قبيلته!
وإذا نظرنا للقناعات والحقائق على أنّها طريقة لحمايتنا تطورت مع الإنسان منذ العصور البدائية (الخوف من ترك الجماعة لكي لا يصبح فريسة سهلة) حتى اليوم (الخوف من أن يصبح وحيداً أو منبوذاً) فإنّك لتستطيع تغيير رأي أحدهم عليك أن توفر له ما سينقصه لو أنّه غيّر رأيه: مجتمع وبيئة حاضنة، وسط لطيف ينتمي إليه.
وإذا فكّرنا أكثر قليلاً نجد أنّه من الصعب جداً تغيير رأي الأشخاص من خلال جدال أو مناظرة. يقوم الكثيرون في مثل هذه المناسبات بإعطاء الطريقة التي يظهرون فيها قيمةً عالية، ويرغبون بحفظ ماء وجههم وعدم الظهور كأشخاص أغبياء رأيهم ليس ذو قيمة. يدفعهم ذلك عند جدالهم بالحقائق المختلفة إلى التأكيد والتشبث بآرائهم بدلاً من إعلانهم لعدم صحة معتقداتهم أمام العلن.
لكن، إليك طريقة علّمني إياها أحد الأصدقاء، اسأل نفسك قبل أي نقاش تخوضه: “ما الهدف من هذا النقاش؟” “أين أريد أن أصل؟”
إذا كان الجواب هو رغبتك بالتعلّم، أو رغبتك بتغيير آراء الطرف الآخر نظراً لقناعتك التامة بأنّ العالم سيصبح مكاناً أفضل إذا غيّر بعض الناس آراءهم حيال موضوعٍ ما فعليك المتابعة والمثابرة في النقاش. وتذكّر هنا أن تكون لطيفاً وهدفك التغيير للأفضل.
اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس
تنطبق هذه المقولة لوزير الدعاية النازية جوزيف جوبيلز أيضاً على القناعات الخاطئة. فتكرار ذكر الأفكار السيئة سيؤدي بالنهاية إلى أن تدخل في معتقدات الناس ويتبنوها ويتناسب عدد المؤمنين بهذه الأفكار مع كمية تكرارها. ولعلّ أكثر طريقة نقوم فيها بتكرار الأفكار السيئة دون أن ننتبه هي عن طريق التذمّر!
نتذمّر من أفكار أو معتقدات معيّنة لكننا لا ننفكّ نعيدها ونكررها ونتذمر منها، فكيف يمكن لهذه الأفكار أن تندثر ونحن نعيدها ونكررها!
تعلّمت أنا في هذا الأسبوع أنّ جملة المعتقدات التي نملكها كأفراد هي من أكثر الأمور تعقيداً، تتأثر بمختلف العوامل التي مررنا بها من طفولتنا وحتى يومنا هذا وتستمر بالتشكّل والتغيّر ما حيينا. لكن من خلال فهمنا لبعض العوامل التي تؤثر فيها يمكننا أن نفكّر بطريقة أقرب ما تكون للموضوعية أو لنقل التحليلية والنقدية. وفي محاولتك لتغيير أفكارك أو تغيير أفكار الآخرين تذكّر أن تكون لطيفاً في نقاشك، تذكّر أن توفر لهم ما سينقصهم لو غيّروا رأيهم وتبنّوا آراءك. والأهم من ذلك كلّه ابتعد قدر الإمكان عن التذمر!
اترك تعليقاً